عبد الله بن مسعود

صحابي جليل من أعلام الصحابة (رضي الله عنهم) ومن قراء القرآن الماهرين، ولحب الرسول (صلى الله عليه وسلم) قراءته قال يوصي أصحابه من سره أن يقرأ القرآن رطباً كما أنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد... كيف بدأت قصة هذا الصحابي مع الإسلام والإيمان..؟
كان عبد الله بن مسعود أو (ابن أم عبد) كما ينادونه الناس صغير السن، وقد دأب على أن يخرج بغنم لأحد الرجال من قومه منذ البكور ثم لا يعود إلا إذا اقبل الليل.

وفي ذات يوم أبصر الغلام المكي عبد الله بن مسعود رجلين عليهما الوقار يتجهان نحوه من بعيد، وقد أصابهما التعب الشديد، واشتد عليهما العطش حتى جفت منهما الشفاه والحلوق.
فلما وقفا عليه، سلما وقالا: يا غلام، احلب لنا من هذه الشياه ما نطفئ به ظمأنا، ونبل عروقنا.
فقال الغلام: لا افعل فالغنم ليست ليّ، وأنا عليها مؤتمن...

فلم ينكر الرجلان قوله، وبدا على وجهيهما الرضا عنه. ثم قال له احدهما: دلني على شاة لم ينز عليها فحل، فأشار الغلام إلى شاة صغيرة قريبة منه، فتقدم منها الرجل واعتقلها، واخذ يمسح على ثديها بيده وهو يذكر عليها اسم الله، فنظر إليه الغلام في دهشة وقال في نفسه: ومتى كانت الشياه التي لم تنزُ عليها الفحول تدر لبناً؟! لكن ثدي الشاة ما لبث أن انتفخ، واخذ اللبن يخرج منه كثيراً وفيراً. فاخذ الرجل الأخر حجراً مجوفاً من الأرض، وملأه باللبن، وشرب منه هو صاحبه، ثم سقيا الغلام معهما، وهو لا يكاد يصدق ما رأى... فلما ارتويا، قال الرجل المبارك لثدي الشاة: انقبض. فما زال ينقبض حتى عاد إلى ما كان عليه. عند ذلك قال الغلام للرجل المبارك: علمني من هذا القول الذي قلته. فقال له: انك غلام معلم. كانت هذه هي بداية قصة عبد الله بن مسعود مع الإسلام...
إذ لم يكن الرجل المبارك إلا رسول الله (صلوات الله عليه)، ولم يكن صاحبه إلا الصديق رضي الله عنه، فقد خرجا في ذلك اليوم إلى شعاب مكة، لشدة ما آذتهما قريش ولشدة ما أنزلت بهما من البلاء.
لم يمض غير قليل حتى اسلم عبد الله من مسعود وعرض نفسه على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليخدمه، فوضعه الرسول (صلوات الله عليه) في خدمته. ومنذ ذلك اليوم انتقل الغلام المحظوظ عبد الله بن مسعود من رعاية الغنم إلى خدمة سيد الخلق والأمم. لزم عبد الله بن مسعود رسول الله (صلوات الله عليه) ملازمة الظل لصاحبه، فكان يرافقه في حله وترحاله، ويصاحبه داخل البيت وخارجه، حتى دعي بصاحب سر رسول الله. فاهتدى بهدي النبي (صلى الله عليه وسلم)، وتخلق بأخلاقه واتصف بصفاته، حتى قيل عنه: انه اقرب الناس إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هدياً وسمتاً. ابن مسعود... العالم وتعلم ابن مسعود في مدرسة الرسول (صلوات الله عليه) فكان من اقرأ الصحابة للقرآن، وافقهم لمعانيه، وأعلمهم يشرع الله.
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يسمرُ ذات ليلة عند أبي بكر، ويتفاوضان في أمر المسلمين، وكنت معهما، ثم خرج رسول الله وخرجنا معه، فإذا رجل قائم يصلي بالمسجد فوقف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يستمع إليه، ثم التفت إلينا وقال من سره أن يقرأ القرآن رطباً كما انزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد...) ثم جلس عبد الله بن مسعود يدعو فجعل الرسول (عليه الصلاة والسلام) يقول له سل تعطه.. سل تعطه) ولقد بلغ من علم عبد الله بن مسعود بكتاب الله انه كان يقول: والله الذي لا اله غيره، ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا اعلم أين نزلت واعلم فيم نزلت، ولو اعلم أن أحدا اعلم مني بكتاب الله تناله ألمطي لأتيته.
الفاروق يسأل... وعبد الله بن مسعود يجيب لم يكن عبد الله مبالغاً فيما قاله عن نفسه، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يلقى قافلة في سفر من أسفاره، والليل مخيم يحجب الركب بظلامه، وكان في الركب عبد الله بن مسعود، فأمر عمر رجلاً أن يناديهم: من أين القوم؟ فأجابه عبد الله: من الفج العميق. فقال عمر: أين تريدون؟ فقال عبد الله: البيت العتيق. فقال عمر: أن فيهم عالماً... وأمر رجلاً فناداهم: أي القرآن أعظم؟ فأجابه عبد الله: "الله لا اله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم"

قال: نادهم أي القرآن أحكم؟ فقال عبد الله "أن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى".
فقال عمر: نادهم أي القرآن أجمع؟ فقال عبد الله "فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره".

فقال عمر: نادهم أي القرآن أخوف؟ فقال عبد الله "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً".

فقال عمر: نادهم أي القرآن أرجى؟ فقال عبد الله "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً، انه هو الغفور الرحيم".

فقال عمر: نادهم أفيكم عبد الله بن مسعود؟! قالوا: اللهم نعم.

المجاهر بالقرآن

ولم يكن عبد الله بن مسعود قارئاً عالماً عابداً فقط وإنما كان مع ذلك قوياً حازماً مجاهداً مِقداماً إذا جد الجد. فيكفيه انه أول مسلم على ظهر الأرض جهر بالقرآن بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم): فقد اجتمع يوماً أصحاب رسول الله في مكة، وكانوا قلة مستضعفين فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهم إياه؟! فقال عبد الله بن مسعود: أنا أسمعهم إياه. فقالوا: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلا له عشيرة، تحميه وتمنعه منهم اذا أراده بشر، فقال: دعوني فان الله سيمنعني ويحميني... ثم غدا إلى المسجد حتى أتى مقام إبراهيم في الضحى، وقريش جلوس حول الكعبة، فوقف عند المقام وقرأ :بسم الله الرحمن الرحيم- رافعاً صوته- "الرحمن* علم القرآن* خلق الإنسان* علمه البيان...". ومضى يقرؤها، فتأملته قريش قالت: ماذا قال ابن أم عبد؟! تبا له... انه يتلو بعض ما جاء به محمد...
وقاموا إليه واخذوا يضربون وجهه وهو يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ، ثم ذهب إلى أصحابه والدم يسيل منه، فقالوا له: هذا الذي خشينا عليك. فقال : والله ما كان أعداء الله أهون في عيني منهم الآن، وان شئتم لاغادينهم بمثلها غداً قالوا. لا، حسبك، لقد أسمعتهم ما يكرهون.
عاش عبد الله بن مسعود إلى زمن خلافة عثمان رضي الله عنه، فلما مرض مرض الموت جاءه عثمان عائداً، قال له: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي. قال: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي.
قال: ألا آمر لك بعطائك الذي امتنعت عن أخذه منذ سنين؟! قال: لا حاجة لي به.
قال: يكون لبناتك من بعدك. قال: أتخشى على بناتي الفقر؟ إني إمرتهن أن يقرأن سورة الواقعة... واني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا.
ولما أقبل الليل لحق عبد الله بن مسعود بالرفيق الأعلى ولسانه رطب بذكر الله، ندي بآياته البينان.
رضي الله تعالى عن عبد الله بن مسعود، فقد كان من العلماء العاملين والمؤمنين الصادقين.