أصحاب الأيكة

قال تعالى"وإلى مدين أخاهم شعيباً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره" [هود:84]

"كذب أصحاب الأيكة المرسلين إذ قال لهم شعيب ألا تتقون" (الشعراء:177)

فقد أرسل الله تعالى نبيه شعيباً عليه السلام إلى أصحاب الأيكة، وهم أهل مدين‏,‏ كانوا عربا سكنوا الأطراف الشمالية الغربية من أرض الحجاز في المثلث المتكون عند التقاء خليج العقبة بالبحر الأحمر علي هيئة كتلة صخرية كبيرة تعرف جيولوجيا باسم كتلة مدين وتقع في الزاوية المتكونة بالتقاء خليج العقبة مع شمال البحر الأحمر‏,‏ ممتدة من الثلث الجنوبي لخليج العقبة في خط مستقيم يتجه جنوبا بشرق ليلتقي بشمال البحر الأحمر‏.‏

وأهل مدين كانوا علي دين إبراهيم (عليه السلام) وهو الإسلام العظيم المعروف بالحنيفية السمحة‏,‏ فهم بنو مدين بن إبراهيم (عليه السلام) ولكن بمرور الزمن اجتالتهم الشياطين فنسي نسلهم الدين فضلوا وأضلوا‏,‏ وافسدوا في الأرض افسادا كبيرا‏,‏ وأغرتهم الشياطين بعبادة شجرة من الأيك وسط غيضة ملتفة بها‏,‏ ولذلك عرفوا باسم أصحاب الأيكة وكان من ضلالهم أيضا أنهم كانوا يبخسون المكيال ويطففون الميزان‏,‏ كما كانوا يقطعون الطريق علي المسافرين‏,‏ ويأخذون العشور من المارة‏,‏ وكانوا أول من سن ذلك فبعث الله سبحانه وتعالي إليهم نبيه شعيبا عليه السلام  يدعوهم إلي عبادة الله تعالي وحده‏,‏ وينهاهم عن الشرك بالله‏,‏ وعن أعمالهم وسلوكياتهم الخاطئة‏.‏
ولهذا وعظ هؤلاء وأمرهم بوفاء المكيال والميزان، كما في قصة مدين سواء بسواء، فدل ذلك على أنهما أمة واحدة، ويذكر أنهم عاشوا في بلدة مليئة بالماء والأشجار بين الحجاز والشام وكانت حياتهم مرفهة ثرية فأُصيبوا بالغرور والغفلة، فأدى ذلك إلى الاحتكار والفساد في الأرض. فبعد أن يئس من إِصلاحهم أصابهم حرٌّ شديد استمر لعدّة أيّام متصلة، وفي اليوم الأخير ظهرت سحابة في السماء اجتمعوا في ظلها، ليتفيؤوا من حر ذلك اليوم، فنزلت عليهم صاعقة مهلكة فقطعت دابرهم عن آخرهم.

وذكرهم نبيهم شعيب بنعم الله  تعالي عليهم‏,‏ ومنها انه سبحانه وتعالي أكثرهم من بعد قلة‏,‏ وأغناهم من بعد فقر‏,‏ كما نصحهم نبيهم بأن القناعة بالرزق الذي قسمه الله تعالي لهم هو خير من أكل أموال الناس بالباطل‏,‏ وان ما يبقي لهم من الربح بعد وفاء الكيل والميزان خير من تطفيفهما‏,‏ وان دين الله الذي أنزله علي سلسلة طويلة من أنبيائه ورسله‏,‏ ثم جاءهم به نبيهم شعيب هو خير لهم من معتقداتهم الفاسدة‏,‏ فسخروا منه‏,‏ وهددوه ومن آمن معه بالطرد من قريتهم إن لم يعودوا إلي شركهم وفسادهم‏,‏ فأنزل الله  تعالي بهم رجفة قضت علي اغلبهم وهم في بيوتهم ونجي الله تعالي شعيبا وقلة من أصحاب مدين كانوا هم الذين امنوا معه‏,‏ وفي ذلك يقول ربنا  تبارك وتعالي  في محكم كتابه "وإلي مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين‏*‏ ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين‏*‏ وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتي يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين‏*‏ قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أو لو كنا كارهين‏*‏ قد افترينا علي الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا ان نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما علي الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين‏*‏ وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون‏*‏ فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين‏*‏ الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين‏*‏ فتولي عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسي علي قوم كافرين‏*‏ (الأعراف‏:85-93‏)

هذا التفصيل عن نبي الله شعيب وقومه أصحاب الأيكة أو أصحاب مدين والذي جاء في‏50‏ آية قرنية كريمة‏,‏ جاء فيه ذكر نبيهم شعيب‏11‏ مرة‏,‏ ومدين‏10‏ مرات وأصحاب الأيكة‏4‏ مرات كل ذلك أنزل من قبل ألف وأربعمائة سنة علي نبي أمي صلي الله عليه وسلم في أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين وهو  صلوات الله وسلامه عليه لم يثبت في سيرته الشريفة أنه وصل إلي منطقة مدين قط‏,‏ وان قصة شعيب مع قومه كانت قبل بعثة المصطفي صلي الله عليه وسلم  بقرابة ألفي عام من‏1244‏ ق‏.‏م ـ‏610‏ م فمن أين له هذه التفاصيل إن لم تكن وحيا من رب العالمين؟ خاصة أن العرب لم يكونوا امة تدوين في زمانه ولا من قبل زمانه‏!‏

من هنا كان في تفاصيل قصة نبي الله شعيب عليه السلام في القرآن الكريم‏,‏ وفي وصف أحوال قومه بالتفصيل‏,‏ وفي نعتهم بأصحاب مدين أو أصحاب الأيكة وفي الإشارة القرآنية الكريمة التي يقول فيها ربنا تبارك وتعالي وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين‏.‏ (الحجر‏:78)

من صور الإعجاز في كتاب الله إعجازا تاريخيا ما يشهد للقرآن الكريم بأنه لا يمكن أن يكون صناعة بشرية‏,‏ لان المؤرخين لا يعرفون شيئا عن نبي الله شعيب عليه السلام‏,‏ والكتب المتوفرة لدي أهل الكتاب لا تعرف عنه سوي انه كان كاهنا لأهل مدين‏,‏ لجأ إليه موسي عليه السلام  وتزوج من إحدى بناته السبع‏,‏ والقرآن الكريم يسجل أنهما كانتا ابنتين فقط‏,‏ وعلي ذلك فلولا هذا التفصيل القرآني عن نبي الله شعيب وقومه ما كان أمام الناس وسيلة للتعرف علي هذه الأمة من الأمم‏,‏ ولا ما أصابها من صنوف العذاب في الدنيا ولاما ينتظرها من صور العذاب في الآخرة وهو أشد وأبقي‏.‏

المصدر: "من أسرار القرآن للدكتور زغلول النجار"